الكلمة التأبينية للأب نعمان اوريدة1999

الكلمة التأبينية للأب نعمان اوريدة

ألقى الأب جرجس القس موسى كلمة تأبينية للأب نعمان اوريدة يوم دفنته

في كنيسة مار توما – الموصل

يوم الخميس 2/12/1999 الساعة 3:30 عصرا

قلبي مستعد يا الله.. قلبي مستعد   (مز 57: 8)

هذا كله حل بنا وما نسيناك ولا نقضنا عهدك  (مز 44: 18)

سيادة راعينا الجليل / الآباء الأساقفة الإجلاء /إخوتي الكهنة ويا أحبائي كهنة يسوع الملك / أعزائنا أخ وذوي أخينا كلكم جميع المؤمنين وأصدقاء الفقيد الغالي.

أهكذا تسقط الجبابرة.. اهكذا تنهد الجبال..قلتها قبل أسبوعين اثنين فقط

وأنت تبتسم لي في أعلى درج مار توما وأنت صاعد إلى غرفتك بخطى ثقيلة،متعبة وأنت تكاد تجر رجليك جرا والشحوب صابغ جبينك وعينيك بصفرة ما اطمأننا لها أبدا!

اهكذا تغادرنا على رؤوس أصابعك وكأنك خارج في نزهة، أو ذاهب لزيارة مريض،

أو تفقد أبناء الرعية.. ثم تعود ألينا وقت العشاء؟ أم كنت ذاهبا في سفر طويل تخشى ألا تعود منه، فأخذت تودعنا، وتوزع هداياك وعطاياك، وتسلم الأمانات إلى أصحابها، وتوصي بما يعز على قلبك قبل المغادرة؟!

بأي قلب أحدثك يا أخي نعمان وأنت مسجى أمامي في صمتك الأخير، هل تسمح لنا اليوم بالبكاء؟ أم تبقى تمنعنا، فنخرج إلى برا لنغسل وجوهنا بدموعنا، كما كنت تفعل معنا في الأيام الأخيرة لئلا نعكر صفو استعدادك وفرحك بلقاء العريس.. كما قلتها يوم اجتمعت بنا أنا وأخي بيوس آخر مرة في غرفتك قبل أسبوعين.

اهذا الذي حفظته لي يدك الطيبة دوما يا رب عشية رسامتي الأسقفية أن ادفن بيدي اعز الإخوة لي.. من عشت وإياه –بمعية الأب بيوس– أحلام الدراسة والبلوغ، حلو الحياة ومرها، فرح الرسالة وأشواكها منذ 48 سنة؟! وكنت تهيئ نفسك بفرح واندفاع الشباب لنكمل المشوار معا وسوية.. ولما علمت ما بك صرت تتوق بكل شوقك لتحضر – ولو على سرير المرض – الرسامة الأسقفية، ولكن الرب شاء أن يتمجد اسمه قبل هذه التعزية

(2) كان قلب الأب نعمان لا يزال يعج بالمشاريع الرعوية والإنسانية ويخطط

لعطاءات واسعة جديدة.. يوم اخبره الأطباء إن نتائج الفحوصات ليست مشجعة، فاستبق تشاؤمهم لكي يستفسر عن واقع حاله.. وما أن وعي خطورة الأمر وحتمية سير الخبيث في جسمه نحو النهاية، حتى لبس قوة جديدة من الإيمان والصبر والرجاء. وصار يردد مع مار بولس الرسول  (فيلبي 1؛ 2 – 23): –

المسيح يمجد في جسدي سواء عشت أم مت.. قلبي مستعد يا لله.. أو إنا فرح للقاء المسيح، فرح العريس بلقاء عروسه.. ولكن إذا كانت حياة الجسد تمكنني من القيام بعمل مثمر، وكانت هذه هي إرادة الله، فانا مستعد أن أعود لأخدمه من جديد وبكل قوتي..

خمسة عشر يوما فقط قضاها أبونا نعمان على سرير المرض، وثلاثة أسابيع فقط منذ التشخيص الأولي، ولكنه قضاها يعظ بالرجاء والقيامة،والأمل وتسليم الذات لمشيئة الرب. ولقد أعطى لجميع زائريه – وقد جاوز عددهم الألف من الموصل ومن كل المناطق، بحسب إحصائية تقديرية لاحظها هو بنفسه – أعطاهم عبرة لن تنسى بالإيمان والطيبة والوعي وروح الصلاة. ولم يكف إلا في اليومين الأخيرين عن تسمية كل واحد باسمه وكنيته، ويستفسر عن أحواله وأعماله.

ويا ما نطقت شفتاه – وهو ممدد على ظهره خائر القوى – بحكم وأقوال وتوجيهات كانت تشكل كل منها موعظة وتأملا وإرشادا روحيا.

فيكون هو المشجع، ويخرج الزائر اقوي إيمانا. وسيبقى حيا في الأعماق عطر القداسين الذين أقامهما عند سريره إخوته كهنة يسوع الملك المتجمعون حوله من الموصل وبغداد، مع جمع من المؤمنين والأصدقاء.

وستبقى كلماتك تلك يا أبونا نعمان بمثابة الوصية الأخيرة: ((ولدت فقيرا، وحاولت أن أعيش فقيرا متجردا عن الطمع، راغبا في أن اسعد الآخرين بما املك، وكنت اشعر بالسعادة حين أساهم في سعادة الآخرين وتحسين أوضاعهم المادية.

كنت سعيدا في كهنوتي، ولم اندم لحظة واحدة على إني اخترت الكهنوت. لم احمل حقدا على احد، وإذا ما كان هناك شخص ما قد قصرت تجاهه، فانا اطلب المغفرة والمسامحة. كما إني اغفر من كل قلبي لكل من أساء إلي)).

(3)   وانطفأت الشمعة المضيئة صباح يوم الشهيد، البارحة، الأربعاء  1/12/1999 وهو يوم موت الأخ شارل يسوع الذي أحبه الأب نعمان وفكر ردحا من الزمن، يوم كان طالبا في المعهد الاكليريكي، أن ينتمي إلى رهبنته، وبقي يحيى من روحانية إخوة يسوع الصغار طيلة حياته. وفي أيامه الأخيرة طالما ردد عبارة الإنجيل العزيزة على شارل دي فوكو: (( حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمت، بقيت وحدها، وان هي ماتت، أتت بثمر كثير)).

(4)  ولد نعمان اسحق اوريدة في حلب في 13 نيسان 1936 وتركت المرحومة والدته الماردينية الأصل حلب إلى الموصل مع زوجها الموصلي وأخوه جورج من أمه – ونعمان طفل في الشهر السابع من عمره – وهنا تربى. ولما أنهى دراسته الابتدائية دخل معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي في الموصل عام 1950 حيث أكمل دراسته الفلسفية واللاهوتية ورسم كاهنا في 10 حزيران سنة 1962 مع زملائه: ألخوري فرنسيس جحولا رئيس دير مار بهنام، والأب بيوس عفاص، والمطران حنا زورا (كندا)، والآباء يعقوب شير (كركوك)، يوسف به ري (فرنسا) والمتكلم.

وفي أيلول سنة 1962 شكلنا سوية: الفقيد والأب بيوس والشماس جاك اسحق (مطران اربيل حاليا) والمتكلم، جماعة كهنة يسوع الملك التي بقي احد أركانها الثابتين منذ البداية وحتى اليوم، وكان مسؤولها العام منذ تشرين الثاني سنة 1997

منذ سنة 1964 سنة تأسيس مجلة الفكر المسيحي وعلى مدى (30) سنة، بقي الأب نعمان مدير إدارتها والمشرف على التوزيع والحسابات وكل شؤونها المادية إضافة إلى التحرير فيها من وقت لآخر.

منذ سنة 1965 اخذ مسؤولية كنيسة مار توما ككاهن رعية وبقي هكذا حتى وفاته يشرف على أوقافها ويتابع المؤمنين بزياراته وتفقده للمرضى ومتابعة مشاكل العوائل وخدمتهم الروحية بمثابرة حقيقية وأمينة قل مثيلها.

ولكن ترى هل كان الأب نعمان خوري رعية مار توما وحدها، أم كان راعيا حقيقيا لكل كنائس الموصل: كنيسة سيدة البشارة وجماعتها بقيتا حقل رسالته لسنوات طويلة، وظل يتابع أنشطتها وتأهيل المركز الجديد فيها حتى أيامه الأخيرة، كنيسة عذراء فاطمة.. وزاخو وسنجار وكركوك وبعشيقة وبرطلة وقرة قوش..

لن أضيف سوى إن الأب نعمان ترك في كل كنائس الأبرشية ومراكزها، ولدى الكنائس الشقيقة ذكرى اهتمامه ومتابعته ومحاضراته وعلاقاته الطيبة ودماثة أخلاقه وروحه المرحة والعميقة معا. لقد كان معلما حكيما وقدوة لنا جميعا في أشياء كثيرة.

ولقد خص الفقراء والمحتاجين بعناية خاصة. ويا ما تابع الكادحين والعاطلين وبحث لهم عن فرص عمل. بل إن مشروع العطاء الذي بدأه منذ عودته من السودان وموله من موارده الخاصة منذ (4) سنوات شاهد على طموح عميق الجذور في قلب الأب نعمان ليكون نصيرا للكادحين وسندا لذوي الطموحات الأكبر من إمكاناتهم الذاتية، فيسلف لهم من ماله الخاص لمشاريع صغرى لا يريد أن يجني منها سوى انه سند أشخاصا يريدان يطيروا بأجنحتهم الخاصة ويعيلوا عوائلهم بعرق جباههم. ومن الحاضرين من يعرفون عن الأب نعمان في هذه المجالات أكثر مني.

قضى الفقيد سنة في السودان (أيلول 1995 – تموز 1996) يدرس الكتاب المقدس في احد معاهد الرهبان الكمبونيين الايطاليين. وبعد عودته ألينا انضم إلى الهيئة التدريسية في مركز الدراسات الكتابية في مار توما.

تعين قاضيا في المحكمة الكنسية المشتركة في الموصل، ثم رئيسا لها اثر وفاة رئيسها السابق المرحوم القس بهنام كجو.

وكان الأب نعمان مرشدا للجمعية الخيرية للسريان الكاثوليك منذ عدة سنوات وله فيها طموحات.

وقد أولى الشمامسة اهتمامه، وهو المتضلع في الطقس والمقام السرياني. وفي الأشهر الأخيرة كان منكبا على ترجمة كتاب حول إنجيل يوحنا عن الفرنسية. كما انه قام بترجمات ونشرات عن الفرنسية في السودان لا زالت تنتظر الطبع.

(5)   من اجل هذا كله وغيره لا تعرفه سوى القلوب الصامتة، لن أبالغ إذا ما قلت بان كنيسة الموصل، بكل طوائفها، بل كنيسة العراق، والكنيسة السريانية خسرت الأب نعمان، كما خسرته أبرشيته، وكما خسره إخوته كهنة يسوع الملك، وخاصة إخوة الحياة المشتركة في مار توما. ليكن لنا جميعا منذ الآن شفيعا لدى أبي الأنوار.

(7)   فيا أيها الراحل العزيز، نم قرير العين.. وليمنحك الرب إكليل المجد الذي تقت إليه. انك عملت في حقله طوال نهار حياتك وأكملت شوطك كالجندي المجاهد الأمين حتى الرمق الأخير.

دعني أودعك يا أخي ورفيق الجهاد بكلمات طقس تجهيز الكهنة: –

افرح بالقائلين لك: الموت يبطل، وستملك القيامة وكل الراقدين سيقومون بالمجد.

ها إن سفينتك قد وصلت الميناء. فطوبى لك، لان اجر أعمالك محفوظ.

ابسط يمينك، يا أيها الكاهن القديس. وبارك الجمع الذي كرم رفاتك.

أما أنت فأسمعك تجيب مودعا إيانا بنبرة الرجاء ذاته وبالفرح الذي وسم رحيلك: –

أترككم بسلام يا إخوتي وأحبائي، ولترافقني صلاتكم، ولتلتمس من الديان أن يحيني بنعمته ويؤهلني خدره.

أما انتم  فلتقو قلوبكم  ولتتشجع، ولا تحزنوا  يا أحبائي. فإنما افترقت عنكم ظاهريا  فقط.

أما في ملكوت السماء، فسنكون كالملائكة الروحانيين.

يا رفاق دربي أودعكم بسلام. آمين

شكرا للمشيعين: أصحاب السيادة / الإخوة الكهنة القادمين من بغداد ومن الرعايا.. وكل الأصدقاء والمحبين والمؤمنين الذين أبيتم إلا أن تعبروا عن حبكم وتقديركم للفقيد الغالي.

 

رأي واحد حول “الكلمة التأبينية للأب نعمان اوريدة1999

أضف تعليق