ماذا ينتظرون من الكنيسة (1)

ماذا ينتظرون من الكنيسة (1)

ملف/ايلول1971 

       هذا الملف الاستطلاعي هو أول حوار مفتوح نقيمه مع قرائنا حول ما ينتظرونه من كنيستهم وما هي آراؤهم واقتراحاتهم  لإنعاشها. وقد عكست الأجوبة التي آتتنا آراء بيئات مختلفة من مختلف الأعمار ومن كلا الجنسين ومن معظم محافظات القطر واتسمت كلها بالصراحة التامة والجرأة… اللاذعة أحيانا. لا ضير في ذلك  فقد جاءت كلها  نتيجة خبرات شخصية وتحليلا لواقع  يمتزج فيه الحلو والمر، وساقتها كلها رغبة صادقة في المساهمة معنا في جعل الإ صبع على الداء نشدانا للعافية. وهكذا نضع جميعا كل لبنته في التجديد والبناء. 

     لدى سماعك كلمة “كنيسة” بماذا تفكر؟

     تناولت الأجوبة  مفهومي الكنيسة المعنوي والمادي. فهي “مؤسسة الله الهادفة إلى إيصال بشارة الخلاص إلى كل إنسان”. وهي “جماعة المؤمنين بالمسيح وجسده السري: المسيح رأس ونحن أعضاء”، ” لذا فكل مسيحي هو الكنيسة بالاتحاد مع المسيح”. ويتوق معلم إلى أن تكون الكنيسة” كجمهورية  فاضلة وواسعة لبلوغ الكمال في مجتمع متآلف”. “إنها كالبنيان، أعمدته الرؤساء ولبناته المؤمنين”.

   أما انتصار (معلمة)” فكلمة “كنيسة” توحي إليها بان هناك صوما وصلاة وقوانين أخرى يجب تطبيقها”. بينما يذهب طالب جامعي”معمذ ولكن غير مؤمن” إلى”أنها توحي إليه بان هناك مسؤولين متعصبين لتفسيراتهم لمفاهيم الإيمان، دكتاتوريين”.

    وعن المفهوم المادي تعتبرها س (طالبة ثانوية) “بيتا تلتقي فيه بمن هو أحب شخص إليها، المسيح، وتتكلم معه حديث الأخت لأخيها”.

   الكنيسة بيت الله وموضع العبادة والصلاة ومفاهيم يذود عنها الجميع لذا ارتفع الاحتجاج ضد من يستخدمها لمآرب غريبة كمراقبة الفتيات أو” لعرض الأزياء والتسريحات والمبتكرات الجديدة واعتبارها محلا عاما وكأنما الناس يؤمونها لتبديل الهواء والترويح عن النفس”

( مهندس. معلم. طالب جامعي). 

      الكنيسة وقضايا العالم

    هناك من ينكر على الكنيسة أن يكون لها أي شان في غير الدين ويذهب البعض الآخر إلى تأييدها في أمور ومناوئها في أخرى كقضايا الاستعمار والعلاقات الدولية وكل ما تمت إليه السياسة بصلة.

 إلا أن 90 بالمائة من قرائنا الذين أجابوا إلى أسئلتنا متفقون على أن للكنيسة كلمة تقولها في جميع قضايا الإنسان لأنها “أم الشعوب ومرشدة المجتمع وضمير البشرية الحي” ولان المسيحية، كما يصفها يوحنا 23، “تصل الأرض بالسماء إذ أنها تتخذ الإنسان في واقعه الراهن من حيث هو روح ومادة، عقل وإرادة، وتدعوه إلى السمو بفكره من ظروف حياته الأرضية المبتذلة إلى قمم الحياة الخالدة في اكتمال لا نهائي من السعادة والسلام”:

“الكنيسة من العالم وفي العالم فلا يصح أن تحيا منعزلة، غائبة عن الأحداث. ومما يحتم عليها أن تقول كلمتها بوحي الإنجيل وبما يليق بموقف المسيح إن المسيح. عاش مع الناس وصمد في وجه الطغاة وقال كلمة الحق دوما، ولم ينعزل عنهم للصلاة فقط، وتدخل الكنيسة في قضايا الإنسان ليس معناه أنها تنتمي إلى معسكر ما أو تتبنى حزبا معينا

 (مدرس 25 سنة – السليمانية).ذلك لان الكنيسة تعالج هذه الأمور لا كخبيرة في السياسة بل كخبيرة في الإنسان (بولس السادس).

     وهكذا تعكس معظم الآراء أن الكنيسة ليست مجرد أداة للتوجيهات الدينية فقط. اجل إن رسالتها روحية بالدرجة الأولى، ولكن بما  إنها تعانق الإنسان بأكمله فيجب أن تتحسس كل ما يخصه “فتسعى للسلام وتشجب الحرب والعدوان وتساهم في حل كافة قضايا الدول” (عادل – كركوك). ولكن هناك من يشترط “أن تكون الكلمة متزنة وصائبة” (طالب طب 26 سنة)،

“وان لا تتمادى في ذلك لئلا تقع في نفس المصاعب التي وقعت فيها ردحا من الزمن” (صباح – موظف حكومي 27 سنة – الموصل). 

       أنظمة الكنيسة ومتطلبات العصر:

إن اصلب المناوئين لتدخل الكنيسة في شؤون الإنسان يرفعون صوتهم في مسالة الطلاق الذي يرونه حلا عادلا في حالة الزنى أو المروق عن الدين المسيحي، ولا سيما في تنظيم النسل الذي يعتبرونه قضية شخصية جدا “لا دخل للكنيسة فيها” وإجراء لا بد من اللجوء إليه في بعض المجالات الصحية والاقتصادية، فضلا عن كونه “علاجا لازدياد السكان الهائل الذي يهدد البشرية بالجوع والتخلف”.

“نعم إن للكنيسة في نظري كلمتها في قضايا العالم كالسلام والحرب والتخلف، ولا في تحديد النسل” (خضر – فلاح 33سنة قره قوش)

     ومن القوانين أو النظم الأخرى التي يصطدمون بها الاعتراف الفردي والاختلافات الطائفية فيطالبون ببذل أقصى الجهود لإحلال الوحدة المسيحية وتوحيد الأعياد والاصوام بين كافة الطوائف وعدم الاقدام منفردين على اية بادرة يمكن القيام بها مجتمعين، ولا يفهمون عدم زواج الكهنة، إضافة إلى التشكي من قلة قداسة بعضهم ومن نظام أجور الخدمات الكنسية. أما مشكلة اللغة الطقسية:

“… زيارة الكنيسة كل احد دون مشاركة فعلية بالقداس والصلوات وتكرار العملية دون فهم مما جعلني أتردد: هل علي الاستمرار على هذا الروتين أم لا” (مهندس26سنة).

وخاصة الهوة الموجودة أحيانا بين السلطة الكنسية والشعب المسيحي:

“إن  ملاءمة قوانين الكنيسة لمتطلبات العصر متعلقة بعدم عزلها عن الأشخاص الذين وضعت وتوضع من اجلهم . إن العديد من نظم الكنيسة غدا في مستوى اقل من التفاعل مع عقلياتنا مما يحملنا على التخلي عنها لا سيما إذا فرضها علينا أناس صلتهم بنا ضعيفة ويجب علينا تلقيها دون نقاش ولا اقتناع” (معلم 26 سنة) .

“ستتلاءم قوانين الكنيسة مع متطلبات العصر إذا حاولت أن تتكيف وتنفض عنها غبار الجمود واللامبالاة” (معلمة 25 سنة- زاخو) .

         كنيسة العراق

إن الجمود واللامبالاة والانطوائية نعوت غلب توجيهها، ممزوجة ببعض نغمات التفاؤل أحيانا،  إلى الكنيسة في العراق بوجه خاص، فرجالها بالنسبة إلى الكثيرين “يعيشون في أبراج عاجية” يجهلون قضايا الفرد المسيحي، لذا فإنهم يقترحون على رؤسائها  إتباع سياسة “الباب المفتوح” لاستقبال الأبناء ومعالجة مشاكلهم والاشتراك في حياة البلد ونهضته وقضاياه، فلا يحسبون من بعد وكأنهم، هم وشعبهم، غرباء عن وطن إبائهم  وأجدادهم:

“بعد المجمع المسكوني طربنا، بل تباهينا بوعي الكنيسة وانفتاحيتها، إلا أننا لحد الآن

لم نر شيئا تحقق في مجتمعنا العراقي، أو يكاد ما تحقق لا يتعدى الواحد بالمائة “(موظف24سنة).

 “الكنيسة في العراق لم تحقق إلا جزءا بسيطا من رسالتها الإنسانية. اما بالنسبة

للحقول الوطنية فان كنيستنا منعزلة انعزالا تاما وكأنما خلقت للدين فقط وحصرت كل همها في ذهاب الشعب إلى القداس وحفظ  الا صوام” (هلال- طالب 20 سنة).

     ويشتكي الكثيرون من تخلف الكنيسة في الحقل الاجتماعي وقلة ما عملت للنازحين من الشمال اثر الأحوال الشاذة، ويحمل البعض الآخر على تكاليف المدارس الأهلية الباهظة. ومن جهة أخرى يطالبون بمزيد من “الديمقراطية في إدارة الكنيسة وعلاقات رؤسائها بكهنتها وعلمانييها ” (معلم 33 سنة تلكيف).

“عندما تتخذ السلطة قرارا، لا تجهد نفسها لمعرفة رأي العلمانيين وكأنما الرسالة

المسيحية تخص الكهنة وحدهم… إن الانفتاح بين السلطة والعلمانيين هو حجر الزاوية في إنعاش كنيستنا العراقية وإلا فالفشل يلازمنا” (سالم – مدرس 25 سنة – البصرة).

      هذا هوعين الحق. فللعلمانيين دور خاص وهام في حياة الكنيسة، وترجع أجوبتهم صدى انتظارهم من السلطة الكنسية إسهامهم فيها، ويسترعون اهتمامها الجدي المدروس بالتعليم المسيحي للفتيان وبالثقافة المسيحية للكبار، ويتطلعون في اقتراحاتهم إلى إنشاء معهد أو مركز للدراسات اللاهوتية والكتابية وتاريخ الكنيسة، لاسيما الشرقية، ويمكن أن يكون هذا المعهد المقترح مهدا لإعداد أساتذة أخصائيين للتعليم المسيحي في المدارس الأهلية والرسمية. وفي المنطق ذاته يتمنون تشجيعا اكبر للحركات الرسولية. من هنا نرى أن الكنيسة بحاجة إلى تخطيط شامل ومدروس لحاجتها “تقوم به السلطة الكنسية والكهنة، مستندين إلى آراء العلمانيين” (مدرس– السليمانية ) والخروج بها من البعثرة والركود الذي رزحت تحته. “ينتظر منها الآن وبدون تأخير أن تتحرك بسرعة قبل فوات الأوان” (نبيل – طالب جامعي 21 سنة).

ينتظر منها أن تنفتح وتفكر وتراجع حياتها فتعمل كشقيقاتها الكنائس الأخرى على ضوء ما خطه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وخبرة هذه الكنائس بوسعها أن تقينا عثرات كثيرة.

    ولكن إذا كان البعض ينسبون قلة اشتراك العلمانيين في حياة الكنيسة إلى عدم تجاوب السلطة معهم، فالتحليل الموضوعي جعل القراء يكتشفون أسبابا أعمق كامنة في “قلة الثقافة الدينية” و ” سطحية التربية المسيحية في الأسرة ” و”تهاون الكهنة” و”انشغال العلمانيين في أمورهم الخاصة” و “ركود المجتمع الذي لا يقدر ولا يتفهم بعد رسالة العلمانيين بالكفاية”، و”الأهل”؛ فالشاب أو الشابة له أهله الذين يقفون أحيانا –وللأسف الشديد– موقفا سلبيا من اشتراك بنيهم في خدمة الكنيسة وتكميل رسالتهم العلمانية والمساهمة في النشاطات الدينية المختلفة”

( هناء 19 سنة – الموصل). 

 

 آمال اليقظة والقيامة

     من دون الأخذ بمبدأ النقد الذاتي وقبول الاعتراف بنسبية ما اعتبرناه إلى الآن مطلقا وأفضل ومن ثم البناء من جديد، لا يمكن لكنيستنا أن تحيا حياة طبيعية. ستبقى تعطي التعليمات العامة والمبادئ الجميلة دون أن تعالج مشاكل الناس الواقعية وتنعش حياة الفرد المسيحي او تخلق البوادر العملية لجعل الإنجيل حياة المسيحيين وفرض وجودها في المجتمع العراقي لخدمته والمساهمة في تطويره.

   لا ننكر أن شيئا ما اخذ يتبدل في كنيسة العراق. وقد عكست جميع الأجوبة هذا الشعور مقرونا بارتياح وتنفس الصعداء:

“في الآونة الأخيرة بدأت الكنيسة في العراق  تقوم ببعض الأعمال كمحاولة

لتحقيق رسالتها بصورة جيدة، واعتقد أنها بداية حسنة ونرجو أن تشرك الشعب المسيحي بسماع أرائه وتحقيق مطالبه ” ( س. س- موظفة 29 سنة).

“ولكن الآن بدأت تظهر بوادر تبشر بخير مما يجعلني مسرورا بكل ما تقوم به من

نشاط اجتماعي وثقافي وديني، واني انتظر من الكنيسة أن تكون بمستوى الإحداث والتطورات… جريئة… قوية تدخل المجتمع” (صباح – موظف حكومي 27سنة – الموصل).

     ويبني قراؤنا استنتاجاتهم على بوادر الحيوية والوعي التي يلمسونها منذ مدة في الندوات التي تقام هنا وهناك والاهتمام بالكتاب المقدس والسهرات الإنجيلية  والوعي المسيحي الذي تخلقه في أعضائها الأخويات الرسولية التي تجيب إلى حاجات الشبيبة المعاصرة وتحرك بعض العناصر الكهنوتية  الشابة نحو التخطيط  والعمل وبدء اشتراك العلمانيين في الرسالة وطلائع حركة النشر والصحافة التي لا زالت في أولى خطواتها الحذرة. ويتهلل احدهم “للاعتماد أخيرا على الشبيبة كعنصر أكثر ضمانا للإنعاش” (مدرس 26 سنة – الموصل).

    ولكن هذا التحرك لا يشمل سوى جزء صغير من الأفراد والطاقات والقطاعات. لا زلنا في بدء الطريق، وقد تكون الطريق طويلة وشائكة، فالضوء الأحمر الذي ينذر هنا وهناك، في كنيستنا، إنما يسبق اخضر المرور والأمل، وبراعم الزهور الأولى، وان لم تكن الربيع، فهي إيذان بالربيع، شريطة أن لا تذبل من شحة المطر والشمس. 

    الخلاصة:

      إن ضيق المجال يشفع فينا لعدم تمكننا  من الاستعاضة في سرد كل الشهادات والآراء والملاحظات التي أبداها قراؤنا. إن رزمة الرسائل ذات الألوان والأحجام المختلفة التي حملها ألينا البريد منذ شباط الماضي أطلعتنا على اكتشافات كثيرة مما يحمله في طيات قلبه أو في أحاديثه شعبنا المسيحي تجاه كنيسته. ولقد أسهب الكثيرون في إجاباتهم وحملوها اقتراحات ايجابية وأراء جريئة لم يصقلوا حدتها دوما، كما لمسنا في بعض ما ورد، وحسنا فعلوا لأنها أتت طبيعية وشخصية.

     وما ساقنا إلى نشر هذا الملف الأول من نوعه في تاريخ كنيستنا هو حبنا العميق لكنيستنا ورغبتنا الصادقة في إنعاشها والمساهمة في مدها بحيوية الفاتيكاني الثاني وخدمة للحقيقة التي تأبى السير في الظلال والتمويه. إننا لسنا، ولا أظن قراءنا الذين أوردنا آراءهم، من دعاة الانتقاد للانتقاد والتشهير بالعيوب للتحدي! بلى، إنجيل المسيح يتحدانا في أخطائنا وتقاعسنا وسباتنا من خلال هذه الآراء والأفكار التي نعتبرها، نحن، بمثابة تحليل طبي لإمراضنا أو صورة شعاعيه  تعكس ما وراء واجهة كنيستنا. قد لا تكون كلها صائبة، ومنها ما يحتاج فعلا إلى نقاش وتمحيص، إلا أنها تحمل أيضا كثيرا من العناصر الايجابية والأماني والاقتراحات التي تستحق أكثر من أن نمر عليها مر الكرام.

      إني أظن إن كانت كنيستنا في العراق، برؤسائها  ومرؤوسيها، بحاجة ماسة إلى اعتراف عام والى مراجعة حياة شاملة دقيقة صادقة من دون تأخير، فهي بحاجة أيضا لا تقل إلحاحا إلى “خطة خمسيه”  أو “عشرية”، إلى برنامج عمل يصمم سيرها ويدفع بها إلى الأمام في هذه المرحلة “ألما بعد مجمعية” التي تتمخض فيها الكنيسة الجامعة نحو آفاق جديدة، والتي نفحتنا، نحن أيضا، ببعض الوعي والرغبة في السير. لقد دخلنا في مدار الأمل! اجل إن آمالا كبارا تعقد على الوعي الذي نرى بشائره لدى العناصر الشابة من كهنة وعلمانيين، وما ربيعه المنتظر إلا في تلاحم هؤلاء فيما بينهم ومع السلطة كجسد واحد متكامل عامل. يكفينا من التشتت ومعالجة  حياة كنيستنا بدوامة الأوامر والنواهي والتوجيهات من طرف واحد.

      ولكن ليعلم المتحمسون إن سر النجاح الحقيقي وسنة التطور ذاتها لا يعتمدان البتر والتحطيم؛ ومن جهة أخرى لا يعتبرنّ الكبار هدما وتخريبا استئصال بناء متصدع حين يهدف إلى وضع أساس امتن وصرح أجمل. فعلينا بالعمل الهادي في الأعماق، وإلا لكانت كارثة للكنيسة، لا تجديدا لحياتها.

       يقول مثل صيني: “سفرة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة”، فلنخطها سوية بشجاعة وثقة وتصميم وتفاءل.

أضف تعليق