حوار مع المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى
اجراس المشرق – المحور الاول
طروحات التقسيم للمنطقة المشرقية ، معاهدة سايكس بيكو
اجراس المشرق
المحاور: مساء الخير.
أينع السريان علما ومعرفة وفلسفة وموسيقى. حزن السُهوب في مجامرهم، وفرح الفرات ودجلة في قصائدهم. ورثوا آرام وعنفوانها وجمال لغتها، وسَرْيَنوا الجغرافيا واللحن والقصيدة، ثم انقلب الدهر فشرّدهم. ليس الدهر فقط، ولكن التُرك والجهل والمجازر جعلتهم يتركون ألمهم لونا في هذا المشرق. في الجزيرة العليا، في الرها وأكنافها، في ما بين النهرين وسورية، تركوا اسما ولغة وقدّيسين، تركوا دما وحجرا. ماذا تخبّئ لهم الأيام والجغرافيا والتطرّف؟
أجراس المشرق تحاور مطران الموصل سابقا، والمعاون البطريركي للسريان الكاثوليك في بيروت، جرجس قس موسى في كل هذا وفي ملامح الضوء.
قبل الحوار صورة شخصية للمطران قس موسى:
وُلد المطران جرجس قس موسى عام 1938 في بلدة قراقوش، أكبر البلدات المسيحية في العراق، شرق الموصل. واسمها الآرامي القديم بخديدا. تلمذ للآباء الدومينيكان ورُسم كاهنا عام 1962.
ساهم في تأسيس جماعة كهنة يسوع الملك للحياة المشتركة بين الكهنة عام 1964، ومجلة الفكر المسيحي التي ترأّس تحريرها. ثم درّس وأدار إكليريكيّة دير الشرفة في لبنان بين 1964 وـ1966. كما درّس في معهد مار يوحنا الحبيب ومركز الدراسات الكتابية للعلمانيين بالموصل حيث خدم معظم حياته الكهنوتية الناشطة. وهو أحد مؤسسي كاريتاس فيها.
عمل في سكرتاريا البطريركية السريانية الكاثوليكية في بيروت عام 1968. ونال الماجستير بعلم الاجتماع من جامعة لوفون في بلجيكا عام 1979.
عُيّن قاضيا في المحكمة الكنسية المشتركة للمنطقة الشمالية بين عامي 1996 وـ1999 حين رُسم مطرانا وعُيّن رئيسا لأساقفة الموصل وتوابعها حتى عام 2011. فأسّس مجلس أساقفة نينوى وانتُخب معاونا للأمين العام لمجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق عام 2010.
تسلّم عددا كبيرا من المسؤوليات في الكنيسة وأقام احتفالات وتجمّعات ثقافية في كنائس نينوى وأديرتها. وعُيّن معاونا بطريركيّا في بيروت عام 2011. ومثّل كنيسته في مؤتمرات ومجالس ومنظمات مسكونية. كما حضر مؤتمرات وألقى محاضرات حول العالم.
له العديد من الكتب تأليفا وتعريبا، منها: بحثتُ ووجدت، وـعلى دروب الناصرة، وـإخوتي جميع البشر.
يتقن السريانية والعربية والفرنسية.
المحور الأول
المحاور: أهلا بكم.
سيادة المطران جرجس قس موسى، أهلا بك في “أجراس المشرق“.
سأبدأ من حيث أنت، من العراق. وأنت كنت رئيس أساقفة الموصل، وما تعنيه الموصل من هذا الحضور البهيّ في تاريخ هذه المنطقة من العالم. والآن معاون بطريركي للسريان الكاثوليك في بيروت على ساحل المتوسط.
ألا تعتقد، بطريقة أو بأخرى، وربما من غير قصد، لا أعرف، أن المسيحيين المشرقيين قد طعنوا سايكس-بيكو؟؛ بمعنى أنهم لم يعترفوا بتقسيمات سايكس-بيكو؟ ما رأيك بالفكرة؟
المطران قس موسى: أتجاوز كلمة سايكس-بيكو حتى أقول: شعوري دائما منذ أول زيارة للبنان سنة 1961، وكنت لا أزال تلميذا، أن الأراضي هذه هي وحدة جغرافية وتاريخية. فمن الموصل إلى بيروت مرورا بحلب ودمشق وحتى القدس، فكنّا نشعر أن هذه الأرض موحّدة بعناصر كثيرة: مطران من الموصل يتولى رئاسة أسقفية حلب، من ماردين يأتي إلى بغداد، من بغداد إلى الشام، من الشام مرة أخرى إلى ماردين أو إلى الموصل. فهذا شعورنا، وما زال بهذا الاتجاه.
المحاور: قبل أن أذهب إلى سؤال آخر، أريد أن أذهب إليك شخصيا. أعتقد أن المشاهدين لا يعرفون أنك مطران واعتُقلت، لكن لـ24 ساعة. هل أنهم لم يستطيعوا احتمالك أكثر من 24 ساعة عندما اعتقلوك؟
المطران قس موسى: هذه العبارة لغبطة بطريركي مار يوسف الثالث يونان. في الحقيقة لا أعرف إذا كانت في نيتهم أن أبقى أكثر من 24 ساعة، وماذا كانت أهدافهم. ولكن ما أعرفه أنه في سنة 2005 في وضع مضطرب جدا في الموصل كنا نضع في تخيّلنا أو في تصوّراتنا أو في الإمكانات أنه في يوم من الأيام سنخضع لهذه التجربة. ولَقِيَني في نهاية زيارة رعوية مسلّحان وأجبراني على النزول من سيارتي. كنت مع سائق المطرانية، وحدنا. الساعة الخامسة، وقت العودة إلى المطرانية، كان هذا نوعا ما الوقت المتأخر للبقاء خارج البيوت. وفي الفترة هذه لم أعرف بالضبط ما الأهداف. فكنت ألاحظ هل هي تهَم سياسية: أنت متعاون مع الأميركيين؛ تهمة عادية ليس لها طعم ولا لون. والذي يتّهم بتهمة كهذه يجب أن يقدّم على الأقل بعض البراهين أو الصور أو أنني كنت معهم في الوقت الفلاني. لا أبدا. تهمة دينية: أسئلة تقليدية بين مسلم ومسيحي أن يسأل الأول للثاني، المسلم يسأل المسيحي: لماذا تعتبرون المسيح ابن الله؟ هل لله زوجة؟ وإلى آخره من هذا الحديث الاعتيادي جدا. أو لماذا القساوسة لا يتزوجون.
المحاور: سأعود معك إلى منطلق ما بدأت به. هل تعتقد فعلا أن تقسيم المنطقة في بدايات القرن الماضي ساهم فعلا في شرذمة المسيحيين فيها؟
المطران قس موسى: حاليا أنا في حالة قراءة كتاب لهذه الفترة بالذات من التاريخ حين المسيحيون والأشوريون تحديدا كانوا يركضون وراء العودة إلى وطنهم هكّاري في جنوب تركيا ثم تشرّدوا في العراق، وفي النهاية تشرذموا..
المحاور: أي إقليم ماردين “الأوسرون” أو الرها.
المطران قس موسى: نعم.
المحاور: الاسم الحالي هكّاري.
المطران قس موسى: نعم. حتى أرجع إلى الاسم القديم أيضا هكّاري أو حقّاري. هذا مطران اسمه مطران حيقاري. فقصدي أنه في هذه المنطقة الجغرافية كان المسيحيون في أرضهم، في أوطانهم وفي بلادهم التاريخية وفي وحدة جغرافية متقاربة. مع أقليات أخرى، نعم، ولكن قريبون إلى بعضهم البعض. فحين حصل التقسيم هذا بهذه الحدود الحالية التي تسمى اتفاقية سايكس-بيكو بين بريطانيا العظمى وفرنسا، الحقيقة أن ما تحكّم بهذا التقسيم لم تكن الشعوب وإنما كانت المصالح؛ المصالح السياسية والمصالح الاقتصادية خصوصا أن رائحة النفط شُمّت في المنطقة هذه. النفط هو نعمة ولكنه يمكن أن يصبح نقمة. على كل حال، هذا التقسيم قسّم الشعوب المسيحية إلى عدة بلدان. وحتما ساهم في شرذمة الأفكار وشرذمة الشعوب، لا بل شرذمة الأسرة ذاتها.
المحاور: الآن هناك كلام جديد بعد ما يسمى بالربيع العربي أن هناك تقسيمات جديدة. نحن في العراق أمام كلام عن كونفدراليات، عن كردستان لوحدها، الوسط لوحده، الجنوب لوحده. والآن ثمة كلام عن تقسيم سورية. ودائما في الأزمات يخرج إلى العلن الكلام عن التقسيم. ما تداعيات تقسيمات كهذه، لا سمح الله إذا حصلت، على الحضور المسيحي والإسلامي معا؟ ليس المسيحي فقط.
المطران قس موسى: إذا لم يكن ثمة اعتراف بالثقافات المختلفة والديانات المختلفة والشعوب المختلفة التي تشكّل هذا الوطن، فسنبقى في دوّامة التقسيمات وفي دوّامة كسر وحدة الأمّة وفي دوّامة كسر إرادة الشعوب، ولن نتوصّل إلى توحيدها بأي شكل من الأشكال إلا بالاعتراف وبإعطاء حقوق لهذه الوحدات التي تشكّل.. التي نسميها اليوم الأطياف.
المحاور: هل هذه الشعوب فعلا تريد الوحدة؟
المطران قس موسى: أؤكّد لك بالنسبة لي كعراقي والشعب العراقي: مسلم، سني، شيعي، مسيحي، يزيدي، شبكي، بالنسبة للمسيحيين من كل الطوائف، كلنا نحبّ العراق، وكلنا نحب أن نكون مواطنين في هذا البلد. سنة 2000 ذهبت للمرة الأولى إلى اليونان: شباب هارب من العراق. ما جذبني أن الشباب يحملون خارطة العراق من ذهب كأيقونة في أعناقهم.
المحاور: هو في اليونان ويحمل أيقونة. إنه نوع من الحنين والشعور العاطفي. ولكن هو موجود مادّيّا في بلاد أخرى غير بلاده. لماذا يهاجر؟ من يسمح له بالهجرة؟
المطران قس موسى: أستاذ غسان، في الحرب الأهلية اللبنانية كم من الناس أُرغموا على هجرة قراهم أو بيوتهم. إذا كانت هناك قذائف –لا سمح الله—على بيتك وهناك ضرب مستمر وحياتك في خطر، ماذا تفعل؟ هل تترك المنطقة أو لا؟ فوضعنا هو هذا. هؤلاء الشباب أؤكّد لك أنه ليس كلهم ذاهبين بالهلاهل والتصفيق إلى خارج البلد. أُرغموا على ترك البلاد. نعم، هناك مَن يستهوي الغرب. هذا أحد العناصر. نعم، هناك مَن يحب التنقّل والتغيير. نعم، الهجرة كانت واقعا موجودا في التاريخ. ولكن ما هي دوافع الهجرة؟ ما هي أسباب الهجرة البعيدة والقريبة؟
المحاور: أنتم كنيسة لها علاقة بالفاتيكان مباشرة، بالكرسي الرسولي مباشرةً. ماذا يقدّم لكم الفاتيكان للبقاء في هذه الأرض؟
المطران قس موسى: الفاتيكان لا يقدّم لنا شيئا.
المحاور: يتفرّج عليكم كيف تهاجرون؟
المطران قس موسى: لا، العفو. أميّز بين الكنيسة الكاثوليكية والكرسي الرسولي والفاتيكان كدولة. فلا نستطيع أن نتكلم على الفاتيكان وكأن مرجعنا هو الفاتيكان. مرجعنا هو الكنيسة والكنيسة الكاثوليكية. نحن السريان، قسم من السريان اتّحدوا بالكرسي الرسولي الروماني ككنيسة كاثوليكية، لم يفقدوا أي شيء لا من خصوصيتهم الليتورجية الطقسية ولا من تاريخهم ولا من تقاليدهم ولا من لغتهم ولا من كيانهم الكنسي. إذاً، إذا كنت أنتظر شيئا من الفاتيكان كدولة تمثّل كنيسة كاثوليكية أي مرجع روحي هو أن يُسندوا قضايا العالم الثالث تجاه حقوق الإنسان، تجاه حقوق الشعوب، تجاه العدالة، تجاه التعايش بين منتسبي الأديان المختلفة. أن يصبّوا في هذا. أمّا أن أنتظر من الفاتيكان الخلاص، فالخلاص من الداخل.
المحاور: أشكرك. أعزائي، نتوقف مع وثائقي قصير عن اللغة السريانية وتطوّرها، ثم نعود لمتابعة هذا الحوار مع المعاون البطريركي لبطريركية السريان الكاثوليك في بيروت المطران جرجس قس موسى، بعد الفاصل:
السريانية لغة مشتقّة من الآرامية التي ظهرت منذ الألف الأول قبل الميلاد. وباتت منذ القرن السادس منه لغة التخاطب الوحيدة في الهلال الخصيب. واكتسبت اسم اللغة السريانية في القرن الرابع الميلادي مع انتشار المسيحية في المشرق. فنُقلت إليها الكتب المقدّسة واللاهوت والفلسفة والخطابة والشعر والنحو والتاريخ والمنطق.
استخدمها رجال دين مسيحيون، عرب وفرس وأرمن وتُرك، في كتاباتهم. وصارت اللغة الطقسية لقبائل منغولية متنصّرة ومسيحيي كاريلّا في جنوبي غربي الهند.
تُقسم إلى لهجتين وأبجديتين متقاربتين: السريانية الغربية نسبة إلى غرب نهر الفرات، والشرقية نسبة إلى شرقه، وبنوع خاص للرها حيث نشأت أولى المدارس السريانية وحُفظت بها كتابات وتراث الكثيرين من آباء الكنيسة.
تلاقت مع العربية جرّاء الهجرة والتبادل التجاري والثقافي بين المشرق وشبه الجزيرة العربية، وعلى نحو واسع بعد مدّة من قيام الدولة الأموية. فقد ظلّت لغة الدواوين وهيئات الدولة حتى عهد عبد الملك بن مروان حين عُرّبت الدواوين. لكنها ظلّت لغة التخاطب في القرى والمدن حتى القرن الثاني عشر حين سيطرت اللغة العربية بين أغلب سكّان المشرق، وحلّت لغة كتابة في مدن العراق الوسطى منذ القرن الثالث عشر. في ما بقيت السريانية لغة التخاطب بين الموارنة حتى القرن السادس عشر. ويبدو تأثيرها واضحا في اللغة المحكية في بلاد الشام وفي أسماء الكثير من الأماكن والقرى. تُستخدَم حاليا في المناطق ذات الكثافة السريانية في العراق وسورية حيث لا تزال بلدة معلولة تتكلّم الآرامية لغة السيد المسيح، وقرى أخرى قربها تحوّلت إلى الإسلام.
تتألف الأبجدية السريانية من 22 حرفا، تُجمع في ست كلمات: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت. وتُكتب من اليمين إلى اليسار، وتُعدّ اللغة الأم للأشوريين والسريان والكلدان.